تـــــكـــلـــم فـــــــيما يعــــنيـــك ...
تكلم فيما يعنيك
سعود بن محمد الشويش
كثيرون هم أولئك الذين يحبون أن يوصفوا بأنهم مفكرون متميزون، ومثقفون متنورون، فالسوق لذلك رائجة، والطلب عليهم يفوق العرض
وقد أعانهم الله بطرق ووسائل تساهم في سرعة انتشار أفكارهم وتداولها
وإنك لتُعجب – من الإعجاب – بمؤلَّف لأحدهم لعمق
الطرح الذي فيه، وتستمتع بمحاضرة لآخر لما احتوت من جديد فيها، وتطرب
لمقالة سطرها بتؤدة وأناة تضيف لك جديداً، أو ترتب لك فكرة مشوشة.
يساعدهم في ذلك فريق عمل متكامل، أو أدوات بحث متطورة.
وفي سياق المنافسة المحمومة لتصدر الأقران و الأنداد من حيث وفرة النتاج وكثرة الأفكار المطروحة
يحاولون جاهدين الحديث في كل وقت وعن كل حادثة وفي كل منبر – الفضائيات، المنتديات، تويتر، فيس بوك، رسائل الجوال ...-
وكأنهم قد أحاطوا بكل شيء علماً، وأنهم إن لم يدلوا بدلوهم في كل حادثة فسيغرق الناس في أوحال الجهل
ويتيهون في ظلمات التخلّف ويأسرهم الانحطاط، فإذا سمعت آراءهم الفردية – دون تدخل فريق العمل أو استعانتهم بأدوات البحث
– استبدلت إعجابك بهم بالتعجُّب منهم، وانقلب استمتاعك بحديثهم إلى إصابتك بحالة من الغثيان
وتحول طربك بقراءة ما سطروه إلى هم ونكد.
فتكتشف حقائق لم تكن تعرفها، وتبصر عقولاً على حقيقتها
فقد قالت العرب قديماً: اختيار المرء قطعة من عقله.
وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: أرى الرجل فيعجبني؛ فإذا تكلم سقط من عيني.
وللأسف أن كثيرين منهم يلجئون لاستخدام مصطلحات وألفاظ غير مألوفة قدر
الإمكان، ولو كان فيها عجمة أو لَكْنة، ويستشهدون بأقوال الكفار من
الغربيين والفلاسفة ونحوهم أكثر مما يستشهدون بنصوص الوحيين، وأقوال سلف
الأمة، بل ويكتبونها بأحرف لاتينية متبوعة بترجمة لها، وإذا لم يفهما
القارئ والمتلقي فالعيب فيه والخطأ عليه، والمشكلة عنده لأنه لم يفهم ولم
يرتق بفكره لمستوى الكاتب أو المتحدث.
وكأن ذلك من لوازم الثقافة والتميز وأصول التفكير المستنير.
إن استشراف الإنسان لكل حادثة وحدث ليدلي بدلوه فيه، مظنة لوقوعه فيما لا تحمد عقباه من الزلل والخطأ خصوصاً وأن وسائل الاتصال والتواصل الحديثة لا تتيح للمرء مجالاً ليفكر ويتأمل قبل أن يتحدث ويكتب
والنفس البشرية تواقة لأن تكون سباقة لغيرها، متفردة
بأفكار تنتجها في الأحداث التي تفاجئ الناس ويحارون فيها
ولذا ورد في الأحاديث التحذير من ذلك
فقد روى البخاري ومسلم عن جمع من الصحابة رضي الله عنهم قوله صلى الله علي وسلم :"سَتَكُونُ
فِتَنٌ، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا
خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي، وَمَنْ
يُشْرِفْ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، وَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا
فَلْيَعُذْ بِهِ"
الراوي: أبو هريرة المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 7081
خلاصة حكم المحدث: [صحيح]
قال
الحافظ ابن حجر رحمه الله ، في شرح الحديث: "قوله: "من تَشَرَّفَ لها" أي :
تطلَّع لها، بأن يتصدى ويتعرض لها ولا يعرض عنها. و قال الإمام النووي
رحمه الله "وأما قوله: "القاعد فيها خير من القائم" إلى آخره ، فمعناه بيان
عظيم خطرها، والحث على تجنبها، والهرب منها، وأن شرها وفتنتها يكون على
حسب التعلق بها.
ما نشهده اليوم من الفتن التي عمّت الأرجاء من حولنا يحتاج
الحديث عنها والحكم عليها والتنبؤ
بمستقبلها إلى تدبر وتفهم واستحضار خطر الكلمة التي ستقال قبل البوح بها،
فضلاً عن نشرها لتطير بها الركبان و يتناقلها الناس عبر كل الوسائل
المتاحة، فالكلمة والفكرة ملك لصاحبها يتصرف فيها كيف يشاء، فإذا تحرك بها
لسانه وخرجت من فمه أصبح أسيراً لها محاسباً عليها. وفي الحديث الذي رواه
الإمام أحمد "إن من حسن إسلام المرء قلة الكلام فيما لا يعنيه" أي من كمال دينه.
إن التصدي للحديث في كل شأن ومحاولة
التعالي بالخطاب والاستعلاء بالفكر آفة عظيمة، وهو و إن كان في ظاهره
ممارسة مشروعة لحرية التفكير و التعبير، فهو في الحقيقة يتضمن احتقار
الآخرين، والتكبر عليهم وفرض الوصاية الفكرية عليهم من منطلق أن النخب تقود
المجتمع، وربما أدى ذلك إلى انحراف فكري يسقط حامله في أعين الناس قبل أن
يعود بالضرر على الآخرين
قال الحسن البصري :
من علامة إعراض الله عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه
قال معروف رحمه الله :
كلام العبد فيما لا يعنيه خذلان من الله عز وجل .
قال سهل رحمه الله :
من تكلم فيما لا يعنيه حرم الصدق